استرخى جسدي زمنا على فراش اليقظة ، أراقب عرق الليل على النافذة ، أعبر الوجوه المذابة باليأس والمعلقة على الحائط ، بدت أسنانها لامعة كبرق وهي تضحك ببؤس قديم وبجانبها ( هو) يلفها بذراعه قبل أن يحزم وجهه في المرآة ويرفل الغياب تاركا بحة السؤال عالقة : لماذا رحل ؟
في كل مرة كانت تجيبنا بنشيج ولطم ثم صمت ، كنت صغيرة حينها ولا أع ِ سوى تجميع قصاصات الأثواب من مخلفات الخياطة لأصنع شرائط ملونة ألف بها ظفيرتي بدلا من خيوط ( الحصير ) .
في ( بيت العود ) المكون من سبع غرف بــ ( مبرزها ) وملحقاتها ، يسند جدي ظهره على جذع نخلة تتوسط الساحة المسقوفة بالسماء ، يتناول التمر مع القهوة ويدندن بقصائد معبأة في شيخوخته ، تستيقظ النسوة بعد الفجر بقليل ، يفترشن الأرض ، يرضعن صغارهن ، ينجمنّ ( الكمة ) على عجل ليبدأنّ ( تتريس ) أخرى ، ونحن الصغار نمسح بأكمامنا ( المخاط ) والحكايات ، نصنع الدمى من أعواد الخشب ونرسم وجوهها ، إلى أن نسمع بائعا أسيويا متجولا ينادي : ( ليلام .. ليلام ) نترك كل شيء ونلتف حول بضاعته الرخيصة ، نبتاع الملابس والأواني لشهر رمضان وللعيد ، كان يأتي في عربة نهاية كل شهر . في المساء كنت أضع رأسي على حجرها ، وعينّي إلى السماء :
• ِمي .. هين بنات ( نعش ) ؟
• النجوم اللي تضوي أكثر شوفي .. وحده هناك تشبهش !
• وهين أبوهن ؟
صمتتْ ، التفتُ إليها ، عيناها تغرقان بالدمع ، تركتْ السؤال ككل مرة معلقا حيث ( نعش ) الذي ترك بناته ، وترك لها أغنيتها الأثيرة :
( بنات نعش .. شالات نعش
من قال سبع .. ما طاح النار ) ..
وذراعه المعلقة على كتفها في حائط مشقق .
عندما جاء الصباح ، تناول جدي قهوته وقصيدته والسعال ، تجر عمتي الماعز من قرنيها بثقل ثم تطلقها خارجا ، انتظرت رجلا تتباهى به أمام الناس كي لا تبقى عانسا إلى الأبد ، وبعد إن تصالحت مع نفسها صارت زوجة ثانية لابن عمها ، تصومعت أمي في غرفتها ، كان بكاؤها اليومي يخيفني ، فأبكي معها .
تخرج أختي الكبيرة ( شـوّاخ ) تجر فرشتي المبللة وتنقعها تحت الشمس وتطلب مني أن أتوقف كي لا أكبر عليه ، وكنت أحاول ولكنني أجد نفسي غارقة في السائل الذي ُسقيت منه حين أصابتني (الحصبة ) ، والذي كان سبب في وشمي بسيخ حام على فخذي ، لا تزال آثاره باقية .
عاد أبي وركضت الأرض إلى أحضانه ، إلا أنا بقيت أتفرس هيئته والأنثى التي عادت معه ، عيناها الفاغرتان ، تتأهبان لابتلاع كل شيء ، كان يمشي بتوءدة بيننا ، يحمل الوجوه الصغيرة بين يديه ويقبلها ، جاء إليها ليمسح الغياب عن وجهها الذي دفنته في حجرها ، لكنها جرّتْ قدميها ولملمتْ ما تبقى من خطاه ، نهضتْْ كعنقاء جريحة ، ركضتْ إلى غرفتها ، أتبعها ، أسألها :
* لماذا جاء أبي ؟
بعد أعوام .. في كل صباح أرسل بصري خلف رحيله على جذع النخلة متواريا حين غاب سعاله فجأة ، وانزوت القصائد بين طيات ذاكرتي ، تجتثني نتفا .
________________________________________
المبرز : هي الغرفة التي تدخل منها الى غرفة النوم وتسمى ايضا ( الليوان(
بيت العود : البيت الكبير او بيت العائلة
ينجمن : يطرزن نجوما في الكمة
تتريس : مرحلة أولى لخياطة الكمة بالبريسم ليتم تحديد نقوشها ورسمها.
ليلام : بضاعة قديمة وبضاعة كاسدة تباع بالرخص في عربات ممتلئة .
مِي : أمي
منقووووووووووووووووله لعيونكم
__________________